فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَنُيسركَ لليسرى}
عطف على {سنقرئك} كما ينبئ عنه الالتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به صلى الله عليه وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى: {وَيسر لِى أَمْرِى} [طه: 26] للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة والسلام جبل عليها أي نوفقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليماً واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير تلقي طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في الإرشاد وقيل المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة وقيل الأمور الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن وظاهر عليه أيضًا أمر الفاه في قوله تعالى: {فذكر إِن نَّفَعَتِ الذكرى} أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحي إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله وقيل أي فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن أراد فدم على التذكير بعدما استقام لك الأمر من إقرائك الوحي وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلا ما اقتضت المصلحة نسيانه وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلا فليس بشيء وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعاً وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفاً ولا مهيعاً حرصاً على الإيمان وتوحيد الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلا كفراً وعناداً وتمرداً وفساداً فأمر صلى الله عليه وسلم تخفيفاً عليه حيث كاد الحرص على ايمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف: 6] بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلا أو بعضاً ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إلا عتوا ونفوراً وفساداً وغروراً من المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى: {فذكر بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقوله سبحانه: {فَأَعْرَضَ مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} [النجم: 29] وعلمه صلى الله عليه وسلم بمن طبع على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام به فهو صلى الله عليه وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة لا يجب عليه تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا على حقيقته وقيل إنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين نعياً عليهم بالتصميم كأنه قيل افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم ينتفعوا به وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب بقوله تعالى: {سَيذكر مَن يخشى} أي سيذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك بالتذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على حقيته فيؤمن به وقيل إن {إن} بمعنى إذ كما في قوله تعالى: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم وقوله صلى الله عليه وسلم في زيارة أهل القبور «وَإِنَّا إِن شَاء الله تعالى بِكُمْ» وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجاً بما ذكر ونظائره وأجاب النافون عن ذلك بما في (المغنى) وغيره وقيل هي بمعنى قد وقد قال بهذا المعنى قطرب وقال عصام الدين المراد أن التذكير ينبغي أن يكون بما يكون مهماً لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين بالإيمان لا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون الإيمان وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الإيمان مثلاً وهكذا فكأنه قيل ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به وقال الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي الكلام على الاكتفاء والأصل فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والظاهر أن الذين لا يقولون بمفهوم المخالفة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى.
{وَيَتَجَنَّبُهَا} أي ويتجنب الذكرى ويتحاماها {الأشقى} وهو الكافر المصر على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة وقيل المراد به الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وقد روى أن الآية نزلت فيهما فإنه أشقى من غير المتوغل وقيل المراد به الكافر مطلقاً فإنه أشقى من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من كافريهم والأوجه عندي في المراد بـ: {الأشقى} ما تقدم.
{الذى يَصْلَى النار الكبرى} أي الطبقة السفلى من أطباق النار كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها أكبر من بعض وأشد حرارة وقال الحسن {الكبرى} نار الآخرة والصغرى نار الدنيا ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وفي رواية للأمام أحمد عنه مرفوعاً أيضًا «أن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير.
{ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {ولا يحيى} أي حياة تنفعه وقيل إن روح أحدهم تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإن هذه الحالة أفظع وأعظم من نفس الصلى وقال عصام الدين يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت فيها العامل ويحيا والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتاً فيها ولا حياً فتأمل انتهى.
وفي كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظ م الجليل منع ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاه وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال إن مثل ذلك لكم يقال لمن وقع في شدة واستمر فيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب وأمر التراخي الرتبى عليه ظاهر أيضًا لظهور أن الخلود في النار الكبرى أفظع من دخولها وصليها واعلم إن عدم الموت في النار على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلونها فيموتون فيها واستدل لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار يذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» قال الحافظ ابن رجب أنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله عليه الصلاة والسلام «فأماتهم الله تعالى إماتة» وأظهر منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعاً «أن أدنى أهل الجنة حظاً أو نصيباً قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئاً فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار فيصرف وجوههم عن النار» وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لا يجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مدة ثم يحبسوا فيها من غير عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا ذنباً فضرب وحبس بعد الضرب جزاء لذنبه ولم يبقوا أحيا فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون أبعد عن أن يهولهم رؤيتها أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من تتمة العقوبة أيضًا وقال القرطبي يجوز أن تكون إماتتهم عند إدخالهم فيها ويكون إدخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلاً ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقبل قيام الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمه إذا أدخل النار بعد البعث وهو كما ترى وفي مطامح الإفهام يجوز أن يراد بالاماتة المذكورة في الحديث الانامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة لأن فيه نوعاً من عدم الحس وفي الحديث المرفوع: «إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك الساعة» انتهى والمعول عليه ما ذكرناه أولاً والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَنُيسركَ لليسرى (8)}
عطف على {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6].
وجملة {إنه يعلم الجهر وما يخفى} [الأعلى: 7] معترضة كما علمت.
وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايراً لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له.
والتيسير: جعل العمل يسيراً على عامله.
ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يُجعل يسيراً، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيءُ المجعول الفعل يسيراً لأجله مجروراً باللام كقوله تعالى: {ويسر لي أمري} [طه: 26].
واليسرى: مؤنث الأيسر، وصيغة فُعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفْعَل.
والموصوف محذوف، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمِه مؤنثاً بأن يَكون مفرداً فيه علامَة تأنيث أو يكون جمعاً إذ المجموع تَعَامَل معاملة المؤنث.
فكان الوصف المؤنث مناديا علي تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه، وسياقُ الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدر معنَى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعًى فيه وصفه العُنواني وهوَ أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شؤونه هو ما أرسل به وهو الشريعة.
وقوله: {ونيسرك لليسرى} إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون.
فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به، أي نُهيئك للأمور اليسرى في أمر الدّين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلتَ بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة.
وهذه الاستعارة تحسِّنها المشاكلة.
ومعنى اللام في قوله: {لليسرى} العلةُ، أي لأجل اليسرى، أي لقبولها، ونحوُه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلٌّ مُيسر لما خلق له» وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى: {فسنيسره لليسرى} وقوله: {فسنيسره للعسرى} في سورة الليل (7-10).
ويجوز أن يجعل الكلام جاريا علي خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل: ونيسر لك اليسرى، أي نجعلها سهلة لك فلا تشقّ عليك فيبقى فعل: {نيسرك} على حقيقته، وإنما خولف عَمله في مفعوله والمجرورِ المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرورِ المتعلق به.
وفي وصفها بـ: {اليسرى} إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جُعلت يسرى، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى.
فاشتمل الكلام على تيسيرين: تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم أي جعله يسيراً مع وفائه بالمقصود منه، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به.
ويوجَّه العدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه، بأنَّ فيه تنزيلَ الشيء الميسر منزلة الشيء الميسر له والعكسَ للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبول كقول العرب: (عَرضْتُ الناقةَ على الحوض)، وقول العجاج:
وَمهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه ** كأن لونَ أرضِه سماؤُه

وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى: {ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} [القصص: 76] ومنه القلب التشبيه المقلوب.
والمعنى: وعْد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطميناً له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقاً أن لا يفي بواجباتها.
أي أن الله جعله قابلاً لتلقّي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها.
ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما» وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنما بعثتم مُيسرين لا مُعسِّرين».
{فذكر إِنْ نَفَعَتِ الذكرى (9)}.
بعد أن ثبَّت الله رسوله صلى الله عليه وسلم تكفل له ما أزال فَرَقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضُعف عن أدائه الرسالةَ على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مراداً لله تعالى.
ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مبدأ عهده بالرسالة (إذ كانت هذه السورة ثامنة السور) لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام.
أعقب ذلك بأنْ أمَرَه بالتذكير، أي التبليغ، أي بالاستمرار عليه، إرهافاً لعزمه، وشحذاً لنشاطه ليكون إقباله على التذكير بشراشره فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور، فجَمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر.
فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريعَ النتيجة على المقدمات.
والأمر: مستعمل في طلب الدوام.
والتذكير: تبليغ الذكر وهو القرآن.
و{الذكرى}: اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس.
ومفعول {فذكر} محذوف لقصد التعميم، أي فذكر الناس ودلّ عليه قوله: {سيذكر من يخشى} الآيتين.
وجملة: {إن نفعت الذكرى} معترضة بين الجملتين المعلَّلة وعِلتها، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول {فذكر}، أي فدم على تذكير الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله: {سيذكر من يخشى} الآية.
فالشرط في قوله: {إن نفعت الذكرى} جملة معترضة وليس متعلقاً بالجملة ولا تقييداً لمضمونها إذ ليس المعنى: فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تُذَكِّر إذا لم تنفع الذكرى، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى، ولذلك كان قوله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45] مؤولاً بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد، بل المراد فذكر الناس كافة إنْ كانت الذكرى تنفع جميعَهم، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط بـ: {إن} أن يكون غير مقطوع بوقوعه، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر اللَّهُ بعلمه، فأبو جهل مدعو للإِيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخصّ بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم، والواقعُ يكشف المقدور.
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجْتلاب حرف {إن} المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه، ولذلك جاء بعده بقوله: {سيذكر من يخشى} فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله: {فذكر} وما لحقه من الاعتراض بقوله: {إن نفعت الذكرى} المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكرين.
وهذا معنى قول ابن عباس: تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحاً لا غُبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى {إن}، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس: إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني.
ويذكر: مُطاوع ذَكَّره.
وأصله: يتذكر، فقلبت التاء ذالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى إدغامها في الذال الأخرى.
و{من يخشى}: جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يَخْشون.
والضمير المستتر في {يخشى} مراعى فيه لفظ (من) فإنه لفظ مُفرد.
وقد نُزِّل فعل {يخشى} منزلة اللازم فلم يقدر له مفعول، أي يتذكر من الخَشْيَة فكرته وجبلته، أي من يتَوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كلٍ ويتدبر في الدلائل لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به.
والخشية: الخوف، وتقدم في قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} في سورة طه (44).
والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون.
والتجنب: التباعد، وأصله تفعل لتكلف الكيْنونة بجانببٍ من شيء.
والجانب: المكان الذي هو طَرَف لغيره، وتكلفُ الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه، أي يتباعد عن الذكرى الأشقى.
والتعريف في {الأشقى} تعريف الجنس، أي الأشقَونْ.
و{الأشقى}: هو الشديد الشقوة، والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب، وعندنا أن من علِمَ إلى موته مؤمناً فليس بشقي.
فالأشقى: هو الكافر لأنه أشدّ الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار.
وتعريف {الأشقى} تعريف الجنس، فيشمل جميع المشركين.
ومن المفسرين من حمله على العهد فقال: أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة.
ووصْفُ {الأشقى} بـ: {الذي يصلى النار الكبرى} لأن إطلاق {الأشقى} في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإِبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبيّنه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية.
ومقابلة {من يخشى} بـ: {الأشقى} تؤذن بأن {الأشقى} من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصاً من شقائه.
ووصفُ النار بـ: {الكبرى} للتهويل والإِنذار والمراد بها جهنم.
وجملة {ثم لا يموت فيها ولا يحيى} عطف على جملة {يصلى النار الكبرى} فهي صِلة ثآنية.
و{ثم} للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حالِه بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشدّ ممّا أفاده أنه في عذاب الاحتراق، ضرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة.
فمعنى {لا يموت}: لا يزول عنه الإِحساس، فإن الموت فقدان الإِحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل.
وتعقيبه بقوله: {ولا يحيى} احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يُهلك المحرَق، فإذا قيل: {لا يموت} توهَّم المنذَرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإِهلاك فيبقى المحرق حياً فيظن أنه إحراق هيّن فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه {ولا يحيى}، أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة {ولا يحيى} بقوله: {يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها}.
وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالةٍ وسَطٍ بينَ حالتيهما مثل: {لا شرقية ولا غربية} [النور: 35] وقول أحدى نساء أم زرع: «لا حَرّ ولا قُرّ» لأن ذلك لا طائل تحته.
ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإِحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك.
وفي الآية مُحسِّن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين {لا يموت} و{لا يحيى}. اهـ.